تقلب المؤمن بين الشكر والصبر
دَيدنُ المؤمن الحقّ وسِمَته التي يمتاز بها ونهجُه الذي لا يحيدُ عنه شكرٌ علىالنّعماء وصَبر على الضراء، فلا بَطَرَ مع النعَم، ولا ضَجر مع البلاء، ولِمَ لايكون كذلك وهو يتلو كتابَ ربه الأعلى وفيه قوله سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7]، وفيه قولُه عزّ اسمه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وقولُه سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، إلى غير ذلك من الآياتِ الكثيرة الدالّة على هذا المعنى.
وبيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميلَ حال المؤمن في مقامِ الشكر والصبر وكريمَمآله، فقال: (عجبًا لأمرِ المؤمن، إنّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إِلَّا للمؤمن، إن أصابَته سرّاء فشكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له)[1] فالعَبد ما دام في دائرة التكليف؛ فمِناهج الخير مُشرَعَةٌ بَين يديه، فإنّه متقلّبٌ بين نِعمةٍ وَجب شُكرُها، ومُصيبة وجَب الصبرعليه، وذلك لازمٌ له في كلِّ أشواط الحياة.
ولقد كان للسَّلف -رضوان الله عليهم- أوفَرُ الحظّ وأروع الأمثال في الشّكر والصبر،ممَّا جعل منهم نماذجَ يُقتَدَى بها ومناراتٍ يُستَضاء بها وغاياتٍ يُنتهَى إليهافي هذا البابِ، حيث كان لهم في صدرِ الإسلام وقفاتٌ أمام صولةِ الباطل وما نالهممنه من أذى ونكال وما صبَّ عليهم هذا الباطل من عَذاب، فلم يزِدهم الأذى والنّكالوالعذاب إِلَّا صبرًا وثباتًا على الحقّ وصمودًا وإصرارًا على مقارعةِ المبطلين.
ثم خلف من بعدهم خلفٌ فَتّ في عضدهم صروفُ الدهر ونوائب الأيام، ونالت من عزائِمهموحادَت بهم عن الجادّة مضلاَّت الفِتن، فإذا هم لا يُعرَفون بشكر إزاءَ نِعمة، ولابصبرٍ أمام محنةٍ، فهم داخلون فيمن وصف سبحانه واقعَه بقوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
فترى منهم الذي يجوِّز على الله الظلمَ في حكمه ويتَّهمه في عدلِه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، لا حديثَ له في غير الاعتراض على ربِّه أن أغنى فلانًا أو أفقرَ فلانًا أو رفَع هذا ووضَع ذاك، وربما قال: لِمَ هذا يا ربّ؟! وكأنّه يتغافل أو يغفل عن قوله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، وعن قوله عزَّ من قائل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
فاتّقوا الله عبادَ الله، واقطعوا أشواطَ الحياة بإيمان راسخٍ ويقين ثابتٍ وتوكّلعلى ربّكم الأعلى وتسليمٍ له وإنابةٍ إليه وتصدِيق بأن كلّ قضاءٍ يقضي الله به ففيهالخير لعبده عاجلاً كان ذلك أم آجلًا، فإنّه سبحانه أرحم بعبادِه من الأمّ بولدها،وأعلَمُ بما ينفعُهم على الحقيقةِ ممّا يضرُّهم، {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
واذكروا أنَّ من آياتِ الإيمان الصبرَ على البلاء والشكرَ على النعماء، وصدَق سبحانه إذ يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11].
للشيخ: أسامة الخياط -حفظه الله-