حل أزمة بتفجير أزمة
مرت نحو ستة أشهر عن آخر اجتماع لمجلس الثورة، وبومدين لا يلقي بالا
لطلباتنا بضرورة عقده بشكل دوري، فقد تركت أزمته مع منجلي أثرا عميقا في
نفسه، كما أنه كان يرى أن مجلس الثورة له دور شكلي لذلك ركز في عملية بناء
الدولة على تنظيم الجيش، لكنه بذلك فتح المجال لانتقاد سياسته في إدارة حكم
البلاد، خاصة وأنه أصبح أكثر ميلا لاتخاذ القرارات الحاسمة بشكل فردي،
وبعد أن فشل في كسب تأييد كبار الضباط لتهميش قادة الداخل ومعهم منجلي
والشخصيات السياسية أمثال محساس وبومعزة، صار يسعى لتهميشنا نحن بالاعتماد
على جماعته التي تمثل النواة الصلبة للنظام الجديد.
ولم أداهن يوما بومدين في نزوعه إلى الحكم الفردي وقلتها له صراحة ذات يوم:
لم نقض على حكم بن بلة لنعيد البنبلية.
فالأساس الذي دفعنا للانقلاب على بن بله رغم كل ما يمثله من ثقل سياسي
وتاريخي ورمزي هو نزعته الفردية في الحكم والارتجال في القرارات ومحاولة
ضرب وحدة الجيش واحتكار العديد من المناصب والصلاحيات في يده، وها هو اليوم
بومدين يعيدنا إلى نقطة الصفر ويكرر نفس أخطاء بن بله، وكأننا غيرنا
الرجال دون أن نغير أساس النظام الفردي الذي من أجله قمنا بتنحية بن بله،
وبذلك وضعنا بومدين بسبب هذا "الانحراف" أمام خيارات صعبة أحلاها أمر من
الآخر، ورغم مساعينا الخالصة لحل هذه المشاكل بطريقة أخوية صادقة لكنه لم
يكن يستمع إلى صوت الحكمة، فجرنا إلى ما كنا نتجنبه ونخشاه قبل إطاحتنا ببن بله.
الرائد
سعيد عبيد الذي كان يقود أهم ناحية عسكرية في البلاد والتي تضم العاصمة
وكان له دور جوهري في القضاء على بعض التمردات، كان أشدنا رغبة في تقليص
صلاحيات بومدين، وقد اتفقت معه على دفع الأمور إلى التأزم لجعل بومدين
يتنازل لصالح مبدأ القيادة الجماعية بدل النزوع إلى الحكم الفردي.
لذلك قررت مقاطعة الاحتفالات بالذكرى الثالثة عشر لاندلاع الثورة والتي
كنا نحرص على تنظيمها في الأول من نوفمبر من كل عام حيث يقام استعراض عسكري
بشارع جيش التحرير بوسط العاصمة، وتقام حفلات ونشطات متنوعة لتخليد هذه
المناسبة التاريخية.
قمت باستقبال وفود عسكرية أجنبية من عدة بلدان كمصر وسوريا والاتحاد
السوفياتي في المطار بشكل عادي أياما قبيل بداية الاحتفالات بعيد الثورة،
لكني في يوم الاحتفال لم أذهب لحضور الاستعراض العسكري، وتأخر انطلاق
الاحتفال ساعتين ونصف، فاتصل بي عبد المجيد علاهم مدير التشريفات بالرئاسة وقال لي:
ـ بومدين ينتظرك بقصر الشعب لتذهب معه إلى الاستعراض العسكري وأنت لم تأت بعد؟
ـ قل لبومدين إنني لن آتي حتى تنظم اجتماع مجلس الثورة وحينها سأتحدث فيه.
غيابي عن الاستعراض العسكري أثار جدلا ونقاشا وتساؤلات بين الضباط وإطارات
الدولة، وحتى الوفود الأجنبية لاحظت بوادر أزمة في الجزائر تلوح في الأفق
خاصة بعد أن تأخر انطلاق الاحتفال عدة ساعات في انتظار حضوري لكني لم آت.
وأخبرني أحد الضباط المقربين مني بعد انتهاء الاستعراض العسكري أنه عندما
مر بدبابته بالقرب من المنصة الشرفية التي كان يجلس بها بومدين وحوله كبار
الضباط والوفود الأجنبية كاد يطلق قذيفة دبابة باتجاهه لكنه تراجع في آخر
لحظة، فحذرته من ارتكاب أي تصرف متهور دون تلقي الأوامر.
أثار رفضي حضور الاستعراض العسكري قلق بومدين، فأرسل السعيد عبيد إليّ وقال له:
ـ لم يأت في الاستعراض.. قل له يأتي في حفل الأميرالية.
وعندما جاءني السعيد عبيد وأخبرني بالأمر أبلغته رسالة شفوية إلى بومدين:
ـ ما دمت لم أحضر في الاستعراض فلن أحضر في الحفل.
وأضفت جازما:
ـ لن أحضر إلا في مجلس الثورة.
بوتفليقة مبعوث بومدين إليّ
تحقق أول هدف من الخطة التي رسمتها مع السعيد عبيد وهي فتح أزمة مباشرة مع
بومدين ووضعه أمام الأمر الواقع، وجعله يسعى للتفاوض من أجل إيجاد مخرج
لهذه الأزمة قبل أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فأرسل بومدين بوتفليقة إلي
لمقابلتي، لكني بادرته بالسؤال:
ـ هل أنت مبعوث أم جئت في زيارة.
ـ بل أنا مبعوث.
وحاول بوتفليقة إقناعي بالعدول عن مقاطعة النشاطات الرسمية للدولة لكنني
تمسكت بموقفي بضرورة عقد اجتماع لمجلس الثورة قبل أي شيء، وافترقنا على هذا
الكلام.
محاولات الصلح
تشكلت لجنة الصلح من أقرب المقربين إليّ في الجيش وأكثرهم سخطا على سياسة
بومدين التي أصبحت تميل إلى الحكم الفردي، وكانت تضم كلا من الرائد السعيد
عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى، والرائد محمد صالح يحياوي الذي أصبح
قائدا للناحية العسكرية الثالثة (بشار)، والعقيد عباس نائب قائد الأركان
وقائد الأكاديمية العسكرية بشرشال، والرائد عبد الرحمان بن سالم نائب قائد
الأركان وقائد الحرس الجمهوري، أصبحت هذه اللجنة تجتمع مرة عندي ومرة عند
بومدين لمحاولة تقريب وجهات النظر.
بومدين كان يخشاني كثيرا، كيف لا وهو يعلم أكثر من غيره جرأتي وعدم تراجعي
عندما أتخذ القرارات الحاسمة، كما يدرك جيدا بأنني قدت عملية إلقاء القبض
على بن بله بنجاح ويمكنني أن أكرر نفس التجربة بنفس النجاح، لذلك قرر
إزاحتي عن قيادة الأركان وإبعادي عن الجيش بأي طريقة، وراح يساومني في ذلك، وقال للجنة الصلح في أحد الاجتماعات:
ـ ماذا يريد؟ مستعد لتعيينه رئيسا للوزراء.
لكني رفضت هذا العرض فلم أكن أرى نفسي أهلا لهذا المنصب السياسي الذي له
رجاله، كما أن المناصب لم تكن تعنيني بقدر ما كان يهمني تقليص صلاحيات
بومدين، وإعادة الشرعية للحكم، وتنفيذ مبدأ القيادة الجماعية، وأول خطوة
نحو تنفيذ هذا الهدف هو عقد اجتماع لمجلس الثورة بكامل أعضائه لمناقشة مختلف القضايا التي تهم البلاد.
عندما لم يتمكن بومدين من إغرائي بمنصب سياسي اقترح علي إنشاء "مجلس
للأمن" أكون على رأسه، فقد كان يناور من أجل تحييدي عن قيادة الأركان بكل
الطرق والوسائل لأنه كان يعلم مدى حساسية هذا المنصب وثقله في الجيش كما
الدولة، ولكني بقيت مصرا على موقفي رافضا التزحزح عنه قيد أنملة، فالأزمة التي كانت بيني وبين بومدين قضية "مبدأ وشرعية"، وليست صراعا من أجل السلطة والنفوذ.
مجلس الثورة يجتمع دون جميع أعضائه
توجه بوتفليقة بصفته وزيرا للخارجية إلى نيويورك لحضور اجتماع لجمعية
الأمم المتحدة، وعند عودته اجتمع مجلس الثورة للاستماع إلى تقريره دون حضور
قادة الداخل وبالأخص صالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية ومحند أولحاج قائد
الولاية الثالثة ويوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة والعقيد محمدي السعيد أحد القادة العسكريين التاريخيين.
ورغم حساسية الأزمة التي تفجرت بيني وبين بومدين إلا أن مجلس الثورة لم
يتناولها لا من قريب ولا من بعيد بعد أن أسقطت من جدول الأعمال، كما أني لم
أحضر هذا الاجتماع لأن مجلس الثورة لم يجتمع بكامل أعضائه وكنت أنوي تقديم
استقالتي كقائد للأركان لمجلس الثورة لا لبومدين حتى لا أمنحه هذا الشرف، إلا أن بومدين كان مصرا على اقـتصار اجتماع مجلس الثورة على جماعة وجدة وكبار الضباط مع تهميش بقية الأعضاء.
جماعة وجدة تتحرك لتطويق الأزمة
كثرت الزيارات إلى بيتي في فيلا زبوشة بالأبيار في أعالي العاصمة، وكان
أغلبهم من ضباط الجيش ومن الشخصيات التاريخية أمثال عمار بن عودة عضو
مجموعة 22 المفجرة للثورة والعقيد علي كافي قائد سابق للولاية الثانية، كما
أن جماعة وجدة لم تقف مكتوفة الأيدي وسعت إلى تطويق الأزمة بعد أن خلقتُ جوا من الشلل والترقب في أعلى هرم السلطة.
وزارني في منزلي كل من بوتفليقة وزير الخارجية وشريف بلقاسم المسؤول عن
الحزب وقايد أحمد وزير المالية وتحدثنا مليا عن المشاكل التي دفعتني إلى
تفجير هذه الأزمة، وأكدت على ضرورة اجتماع مجلس الثورة بكامل أعضائه
لمناقشة المشاكل الحقيقة للدولة خاصة فيما يتعلق بإعادة الشرعية للبلاد وتطبيق مبدأ القيادة الجماعية الذي سبق أن اتفقنا عليه كأساس في تسيير الدولة.
غير أن قايد أحمد اختصر الأزمة في ضرورة أن أتخلى عن قيادة الأركان، فقال لي:
ـ سي الطاهر استقل ولا تعرقل القيادة.
فقلت له بحزم:
ـ أنا لا أعرقل أحدا.
القوة في مواجهة القوة
طيلة شهر كامل والأزمة تراوح مكانها، وفي كل يوم كان يأتيني عدد من مسؤولي
الدولة وضباط الجيش لزيارتي والحديث معي حول هذه الأزمة "المشتعلة" التي
توشك أن تنفجر، وأصيب بومدين بالقلق الشديد من هذه الزيارات المكثفة إلى
منزلي، وخشي أن يكون ثمة ما يطبخ وراء هذه اللقاءات، وأن
هناك من يحرضني على الانقلاب عليه، ولم ينس أننا قبيل انقلابنا على بن بله
كنا نجتمع طويلا في بيته وبيت الطيبي العربي، مما جعله يعلق على هذا الأمر
غاضبا:
ـ ماذا.. جمهورية هنا وجمهورية هناك؟
وأرسل إليّ السعيد عبيد ليكشف لي عن قلقه من كثرة هذه الزيارات، فقلت له:
ـ لا يمكنني أن أرفض استقبال من جاءني زائرا، ولكن أنت لديك الشرطة فامنع الناس من زيارتي.
وعندما وصله ردي، قرر بومدين اعتقالي وقال لكبار الضباط:
ـ إذن ننقل زبيري لمكان لا يزوره فيه الناس.
واضطرب العقيد عباس لهذا القرار الذي من شأنه تأزيم الوضع أكثر فطلب من بومدين التريث أكثر وعدم التسرع في مثل هكذا قرارات، فقال له:
ـ لا تتخذوا أي قرار، دعوني أكلمه لعله يذهب للخارج للعلاج أو يعود إلى ناحيته ولا يبقى في العاصمة.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءني العقيد عباس وقال لي:
ـ س الطاهر.. بومدين قرر إبعادك عن بيتك لأنه يعتبر أن المسؤولين الذين يزورونك يشوشون عليه.
فهمت بأن بومدين يريد حسم هذه الأزمة لصالحه بالقوة بدل التفاهم، وتذكرت
مصير بن بله عندما دخل في صراع معه والمصير الذي كان سيلقاه علي منجلي لولا
تدخلنا الحاسم إلى جانبه، فلجأت في المساء إلى ثكنة الليدو ببرج الكيفان
شرقي العاصمة التي لا تبعد عن مقر الرئاسة سوى بأقل من
عشر كيلومترات أين كان يتواجد بها فيلق مدرع بقيادة النقيب العياشي
حواسنية كنا سنرسله إلى مصر للاشتراك في حرب الاستنزاف ضد الصهاينة.
بلغ بومدين خبر تحصني بثكنة الليدو واعتقد بأنني سأعطي الأوامر للفيلق
المدرع بالزحف على مقر وزارة الدفاع ومقر الإذاعة والتلفزيون وقصر الرئاسة
وإلقاء القبض عليه، فاضطرب واشتد قلقه خاصة أن بوتفليقة كان في مهمة
بالخارج وقايد أحمد في تيارت ويحياوي في بشار، فغادر مقر الرئاسة واختبأ في مكان مجهول، وأخذ يصرخ على أركان دولته عبر الهاتف:
ـ الثورة في خطر.
واتصل بالضباط المقربين مني لمعالجة الأمر قبل أن يؤدي إلى وقوع صدام بين
قوات الجيش، فجاءني وفد مشكل من العقيد عباس والرائد بن سالم والرائد
السعيد عبيد إلى ثكنة الليدو على العاشرة ليلا للقائي وتهدئة الأمور،
وسألني سعيد عبيد بشيء من العتاب:
ـ لماذا أتيت هنا.. بومدين جد قلق.
فأجبته بحزم:
ـ مادام يريد القبض عليّ فلا يرد القوة إلا القوة.
ورجع السعيد عبيد وبن سالم وكان معهما العقيد عباس وقابلوا بومدين وأخبروه
بأنني لم ألجأ للتحصن بثكنة الليدو إلا بعدما قرر اعتقالي، لكن بومدين نفى
بشدة صحة هذا الكلام وقال لهم:
ـ هذا غير صحيح.. طلبتم اجتماع مجلس الثورة.. سأنظم الاجتماع، وإذا أراد
تعديل الحكومة، فسأعدلها، وإن خاف على أمنه فأنتم تضمنون أمنه.
هذه الإجابة أرضت كثيرا السعيد عبيد ويحياوي.. "أخيرا قرر بومدين التنازل
والاستجابة لمطالب كبار الضباط وأغلبية أعضاء مجلس الثورة"، لكنهما لم
يكونا يريدان تصعيد الأمور أكثر من ذلك، فالأهم بالنسبة لهما هو تعديل مجلس
الثورة ليكون أكثر انسجاما.
وجاءني
إلى ثكنة الليدو عدد من الضباط السامين أغلبهم قادة النواحي العسكرية وعلى
رأسهم السعيد عبيد ويحياوي ليبلغوني خبر استجابة بومدين لجميع مطالبنا مع
التأكيد بأنه لم يكن ينوي اعتقالي، لكني لم أكن أثق في كلامه، وأردت أن
أضعه أمام الحقيقة وجها لوجه فقلت لهم:
ـ أطلبوا من بومدين أن يعاهدني أن لا يعاقب الشخص الذي جاءني بالمعلومات، وهو مستعد أن يتكلم.
فلما رجع الوفد إلى بومدين قال لهم:
ـ إذا خاف على أمنه فأنتم قادة النواحي العسكرية تضمنون حمايته.
لم أكن مرتاحا لتطميناته، فمعرفتي الجيدة له جعلتني أحذر من مناوراته،
فبومدين كان يزيح عن طريقه كل من يتجاسر عليه، ولا يتردد في اللجوء إلى أي
خيار من أجل إزالة أي عقبة تحول بينه وبين السلطة أو تنازعه عليها.
كنت أمام خيار صعب، فالثقة مجددا بوعود بومدين التي سبق أن أخلفها كان
سيفقدني أهم ورقة ضغط في يدي، خاصة إذا أمر بومدين بإرسال الفيلق المدرع
الذي يقوده الملازم العياشي حواسنية بعيدا عن العاصمة، لكن قادة النواحي
العسكرية طمأنوني بأن أيا من توجساتي سيحدث، كما أني لم أكن أرغب في وقوع
أي مواجهة عسكرية بين قوات الجيش، إلا أني في الوقت نفسه كنت أرفض أن أكون
لقمة سائغة في فم بومدين، ورغم ذلك استجبت لهم بناء على ضماناتهم بعدما
حذرتهم من مغبة الوقوع في الفخ الذي قد يبتلعنا جميعا، وقلت لهم:
ـ أبيت اليوم هنا وغدا على العاشرة صباحا أعود إلى بيتي.
لقاء حاد مع بومدين في بيتي
في اليوم الموالي وعلى الساعة الحادية عشر إلا ربعا فاجأني بومدين بزيارة
إلى بيتي في الأبيار رفقة أربعة من حراسه المقربين، فأدخلته إلى منزلي،
وعندما أراد حراسه الدخول منعتهم بلطف وقلت لهم:
ـ إبقوا في الخارج، هو عندي في أمان.
جلس بومدين على الأريكة وبادرني بالعتاب:
ـ يا صاحبي خلقت لنا أزمة هتلر... لقد ضخمتها.
لم أكن على استعداد لمجاملة بومدين فرددت عليه بشكل حاد وصريح:
ـ
يا سي بومدين.. لم ندرس مع بعض، ولم نلعب مع بعض، نحن اجتمعنا على مبادئ
ولكنك جعلت الناس يشتموننا.. وعدناهم بأن نقدم لهم أحسن ما قدم لهم بن بله،
لكن الحالة تزداد تعفنا، والناس تصفنا بـ"كابرنات (جمع عريف) بومدين"،
ونحن لما اتفقنا على تنحية بن بله قدمت شروطي لكم، لكنك تسير في طريق بن بله.
ثم أكدت له أن سبب تحصني بثكنة الليدو لم يكن اعتباطيا ولا محض شكوك، وقلت له:
ـ الشخص الذي نقل لي الأمر مستعد أن يتكلم شرط أن لا تعاقبه.. واجمع مجلس الثورة وأنا سآتي.
لكن بومدين لما لاحظ حدتي في الكلام معه، فضل تأجيل النقاش إلى فرصة أنسب، وقال وهو يهم بالانصراف:
ـ أنت غاضب جدا، سنترك الأمر إلى فرصة مقبلة ونتحدث.
إنها قضية مبادئ.. لا أشخاص
بعد هذه الزيارة "الشجاعة" من بومدين، ألح علي وفد الصلح أن أرد له
الزيارة ولو من باب اللياقة لامتصاص فتيل الأزمة التي بدأت تهدأ دون أن
تنتهي مسبباتها، فلم أجد مانعا في الأمر، وزرت بومدين في بيته بشارع
"لاكولون" بحيدرة، ولم يكن هذا اللقاء فرصة لإعادة الوفاق بيننا بقدر ما
أظهر حجم البون الذي يفصلنا، إذ أنني وبعد أن استعرضت عليه القضايا التي
دفعت بالأوضاع إلى التأزم، خاصة بعد تراجعه عن العديد من النقاط التي
اتفقنا عليها قبيل تنحية بن بله وعلى رأسها إعادة الشرعية للبلاد، والتزام
مبدأ القيادة الجماعية، وكيف أن أوضاع البلاد تتجه من سيء إلى أسوأ، لكن بومدين قاطعني ورد علي بكل برودة:
ـ إني أراك ترسم أمامي لوحة سوداء للوضع وأنا لا أرى مثل هذا السواد.
ـ هذا هو الواقع.
واعتقد بومدين أنني أحاول من وراء انتقادي لطريقة تسييره لشؤون البلاد أن
أفرض عليه أسماء بعينها لترقيتها في مناصب قيادية، فسألني بشكل مستفز:
ـ إذا كان لديك أسماء تريد أن تسند إليها مسؤوليات فهات.
أحسست بأن بومدين يهينني بهذا الكلام لأنه يختصر كل ما حدث في مجرد أسماء ومناصب، فأجبته كمن يريد أن يعيد الأمور إلى نصابها:
ـ القضية قضية مبادئ وليست قضية أشخاص.
وغادرت منزله وشعور بالأسف يراودني.